حكايتي شهدت عليها السماء، سيارتي، باب منزلي، مخدتي…. حتى أن الشجرة في باحة المستشفى، تكاد تعترض طريق المارين لتخبرهم الحكايا – منها حكايتي أنا – لكن لم أفهم لم لم يلتفت إليها أحد..
قلبي سيتلو عليكم حكايتي؛ فهو أفصح مني لسانا ويبوح بما يريد ضاربا بعرض الحائط كل الترهات عن العقلانية. ليس ذنبي أن أحلم بالأمومة! أهي رغبة البشرية في البقاء، أم الخوف من الفناء؟ لا يهم السبب! الأهم هو أن هذا هو تماماً ما أردت. فنصف السعادة أن تعرف تماما ما تريد، والنصف الآخر أن تسعى إليه.
انتظرت أربع سنوات، وطال الانتظار! حتى كاد الحلم أن يأخذ غفوة، قبل أن توقظه محادثة عابرة مع زميلة لي، دغدغت الحلم فأيقظته. انتفضت شوقاً لأنامل صغيرة تسعدني، حان الأوان.. حان الأوان لصوت طفل صغير يهز أركان المنزل البارد، حان الوقت للألوان أن تزور بيتنا، لكلمة ماما…
هي وهذه وتلك، لم ليس أنا أيضا… قررت سوف أكون أما فالوقت قد حان
من قال أني سيدة العقل وأميرته فقد صدق. 6 محاولات فاشلة، مؤلمة ومحبطة للحمل بطفل بتقنيات الأطباء لم تفقدني الأمل. ولحظات انتظار النتيجة المرهقة لم تزدني إلى نبضاً، حتى رفع عقلي راية الاستسلام أم صوت خفقاني…
وقد كنت على حق. النتيجة إيجابية! ألم أقل لك لا تستسلم بسهولة؟ هكذا الحب يفعل ما يريد. لكن لحظة! خمسة! خمسة أجنة في رحمي! يالفرحتي وسعادتي! يعني خمسة أسرة، وخمسة قناني حليب وخمسة أطقم وخمسة مصاصات وخمسة أغطية و خمسة من كل شيء! هزني عقلي. قال لي أن هذا خطر على إتمام الحمل والولادة، ما رأيك أن نوقف قلبان! ونترك ثلاثة.. لكن… حسنا سوف أستمع إليك هذه المرة وأتمنى أن تكون على صواب.
ستة شهور مرت وأسلم على ثلاثة قلوب صغيرة في كل وقت. آنستني تلك النبضات بعد أن كنت وحيدة في العتمة! ما بالها تخفت شيئاً فشيئاً! حدث شيء ما، انطفأ القلب الأول، وبعد أسبوع تلاه الثاني.. فتمسكت بالقلب الثالث ورجوته أن يبقى، لكنني ضعفت، ضعفت كثيرا ولم أقوى على التمسك به، فانطفأ هو الثالث… ثم عدت للعتمة وحيدة مرة أخرى.
وخشي عقلي من مواساتي، فواسيته أنا.. لا بأس، القدر الذي أعطاني الخمسة سيعطيني مرة أخرى.. لا تيأس! وللمرة الثانية كنت على حق، نعم هذه المرة ثلاثة توائم.. وعاد النور إلي.. اعتنيت بهم جيدا، هذه المرة لا أريد أن أعود إلى العتمة.
ودعنا قلب واحد، لكن هذا لم يمنعني من الانتظار لحظة بلحظة.. أترقب قدومهم.. أراهم يكبرون ويكبر معهم حلمي بمعانقتهم وشم رائحتهم والشعور بأنفاسهم، وأعلم يقينا أن هذا اليوم آت وقد بات قريبا جداً.
جاءت بنتان جميلتان، تكلمت كثيرا عن الشوق والحب والغرام، لكن شعوري لا تصفه الكلمات، كأنني أمشي بين الغيمات، كأنني في الجنة لا حزن بعد اليوم ولا سقم. نسيت الألم وصبر الانتظار… مرت ثلاث شهور كلمح البصر، ودعت أهلي حتى أعود إلى عملي في الغربة، أو هكذا يسمونها. احتفلنا بهما مع الأصدقاء، وكنت سيدة الدنيا بهاتين الأميرتين بين ذراعي..
انتهت القصة، أرأيتم اسعوا وراء أحلامكم ولا تيئسوا ولا تحزنوا وافعلوا ما تمليهم عليكم قلوبكم فنحن دائما على حق!
مفارقة عجيبة حدثت في لحظة، كم أردت أن أنام نوماً عميقاً بعد جمعة الأصدقاء. لكن إحدى ابنتي تقيئت! علي تنظيف الفراش الآن، وما لبثت أن تقيأت مرة أخرى.. وأخرى .. وأخرى… هرعت! أعلم من أنه برد أو فيروس خفيف… لكنني مفزوعة قليلاً، لا أحب أن أراها شاحبة هكذا!
قيل لي برد ويزول، ثم قيل لي سوائل دماغ وتزول…. ثم دوى صوت طبيب “كيف يعلم الجميع حالة البنت سوى الأم!!!”…. تسمرت في مكاني، تخبروني ماذا!! ارتجفت وخفت قدماي. ترددت كلماتهم الطبية الغريبة في شراييني.. سرطان نادر في الدماغ!..
التفت إلى عقلي وقلت له استيقظ.. ما بك.. هذا كابوس.. أرجوك استيقظ، أريد أن أعيدها إلى سريها تحت غطائها الذي رسمت عليه أحلامها لتحققها عندما تكبر… دعها تكبر!
تشنج عقلي بائسا، لم يكن هناك سبيل، إنه القدر، إنها حرب خاسرة.. فالسلام مع القدر أسلم الحلول… هكذا أخبرني، لمت القدر، شعرت بقسوة منه. وبعد أن هدأ روعي وعرفت أنه لا مفر، أيقظت عقلي من غيبوبته.. هيا ما العمل؟ لا وقت نضيعه! هذا الطبيب وذاك.. أرسل الفحوصات إلى العالم..
الآن أقول، مسكين عقلي، كلما حاول مواساتي بالحقيقة، أصبت بالصمم.. وهل تواسينا الحقيقة؟ هذا ما فكرت به خلال 21 ساعة متواصلة وابنتي في غرفة العمليات
لمت القدر كثيراً، مع أنه جاء برحمات كثيرة. أنا في الغربة نعم، لكن قلوبا حانية رفرفت حولي وأشعرتني بالأهل والعزوة. تباً لمن أسماها الغربة، الغربة هي أن تكون بين أحبابك ولا يشعرون بك. لكن أن تكون بين غرباء بذلوا الغالي والرخيص من أجلك، استمعوا لي وليس لعقلي.. إنها الأخوة وليست الغربة!
شعرت بيأس من حولي، حتى عقلي فضل الصمت! جادلت القدر كثيراً، لا أحد يحاورني عن الصبر، لا تكلموني عن الأمل، الأمل جعلني أكفر… وهل يكفرك الأمل؟
أردت أن ألتقطها من سرير المستشفى وأهرب بها بعيداً، ربما إلى الجنة. حيث أراها تلعب وتمرح تعيش طفولتها التي انتزعت منها! نقمت على الدنيا بأسرها… أريدها أن تصحو لأحممها بماء العافية، أن أغسل وجهها الملائكي، أن أضع لقمة في فمها، يقع منه فتات على قدمها فألتقط الفتات وآكله.. لأن هذا الفتات نعمة بنكهة خاصة!
هل جننت، نظرات عقلي بدت غريبة، بشير إلى من حولي أن أنظري إنه ليس ألمك وحدك، بكيت كالطفلة أبحث عن حضن أمي! إلا أن جاءني الخبر.. وأنا لوحدي.. بعيدة عنها، ودعتني! وعلى الرغم من صرخات عقلي أن أرضى.. أرضى بالقدر! بكيت وبكيت وبكيت وكأنني لم أكن أعرف أن هذا سيحصل..يوماً ما.
في السادس عشر من أغسطس، غسلتها وكفنتها بيداي.. ألبستها الأبيض ووضعتها تحت التراب، وبدأ الشوق إليها يعصف بي… لكن أعلم بأن اللقاء بك قادم.
لكن بقيت أسئلة تحوم حولي، ترعبني! هل الحقيقة مواساة؟ وهل يكفر الأمل؟ وما هي النجاة من القدر! في نفس اليوم من السنة القادمة، جاءتي الإجابات، تاريخ لن أنساه، السادس عشر من أغسطس! عندما رزقني الله بطفل ذكر، في نفس ذلك اليوم السادس عشر من أغسطس، بدون انتظار، بدون ألم ولا بكاء.
وأنا خارجة بالعربة من باحة المستشفى، أخبرتني الشجرة الجواب، نعم الحقيقة مواساة وخداعها هو خداع لنفسك، والأمل لا يكفر إن كان بالله، والنجاة مع القدر لا منه،… إنه القدر وله حكمة لن تفهمها لكنك سوف تشعر بجمالها… وهذا سر كل حكايا تلك الشجرة.
*قصة أم مغتربة حقيقية فقدت حملها مرتين وفقدت طفلتها بعمر 9 أشهر بعد معاناة السرطان، كتبت القصة بقلم ديانا صالح.
ahmed
مايو 7, 2020 في 2:25 مEasy-Scholes is the largest school site in the Arab world to help parents, students and teachers find the best educational institutions
https://www.easyschools.org/ar/schoolProfile/amoun-private-school