نجِدُنا نتوق السماعَ عن زمن الطيبين، عن أولئك الذين يحملون النقاء في قلوبهم ويتركون لنا رائحة الأيام الجميلة العتيقة. التي ترينا مفاهيم كثيرة عن الحياة وقد تبدلها. قد نعتقد بأننا في هذ الحياة لأجل هدف ما، ولكن في قصة رجاء خورشيد تعلمنا درساً آخر. ربما لا ندرك أننا قد نكون سبباً لفرح كثيرين وعطاءً متجدداً كما وجدنا في هذه السيدة الملهمة. حوارٌ أجرته ميرا حوراني مع السيدة رجاء، دعونا نتعرف على تفاصيل الحوار سوياً.
رجاء خورشيد الأم والموظفة
رجاء خورشيد
تخيلي معي، أم لثلاثة أطفال من بينهم توأم، تعيش في الغربة مع زوجها وأولادها. في زمنٍ كانت فيه الغربة غربة جسدٍ وتواصل وعائلة والتواصل صعب وليس كما الآن. وبجانب كل ذلك، تعمل لأكثر من 12 عاماً. كيف لنا أن نصف هذه السيدة البديعة القويّة؟.
هذه هي رجاء خورشيد، وحين نود الرجوع بالزمن لسيرتها منذ تخرجها، فقد عملت لدى البنك العربي لمدة خمس سنوات، وهناك التقت بزوجها وسافرا معاً إلى ليبيا. عملت في قسم المحاسبة في إحدى المستشفيات الخاصة. وعملت مديرة مكتب السفير في السفارة الكويتية. مثل كثير من البلاد العربية، ساء الوضع العام في ليبيا آنذاك، وأغلقت المدارس الخاصة ما أدى إلى مغادرتهما سوياً البلاد والرجوع إلى الأردن. ووجب الذكر أيضا، أنه تم إغلاق الحضانات ومنع الاستعانة بالمساعِدة المنزلية، تحديات كبيرة تواجه هذه السيدة ولكن إرداتها كانت أكبر من كل ذلك.
خلال مسيرة رجاء المهنية، كانت تعمل بعد الظهر، فتتبادل وزوجها الدور للبقاء قرب الأطفال. حيث تبقى هي معهم فترة الصباح ويبقى هو معهم حين تغادر إلى عملها. كان متعاوناً جداً، فالتربية ليست أمراً بسيطاً والحياة متطلباتها كثيرة والتوفيق بين هذا وذاك أمر يحتاج توافق ومشاركة زوجية.
زوجٌ متعاون ومشاركة أدوار
بعد 12 عاماً من العمل، بالإضافة إلى رعاية الأطفال وكذلك الغربة، وبعد أن ساءت الأحوال في ليبيا، طلب منها زوجها البقاء في المنزل وحمل مسؤولية تربية ورعاية الأبناء بشكل كامل تماماً. عادةً ما نجد النساء اليوم اللاتي انخرطن في سوق العمل، يواجهن الصعوبة عند الابتعاد عن العمل كاملاً خارح المنزل. الجدير بالذكر أن هنا قد تجلت أجمل قيم التعاون بين الأزواج وكذلك التقدير. لم يقلل زوج خورشيد من أهمية تربيتها للأبناء وطلبه منها بترك العمل دليل على تقديره لكل ما تفعله داخل المنزل حيث لا يقل أهمية عن العمل خارجه، بل ويكاد يكون أمراً بالغ الأهمية. فتربية أطفال تربية سليمة بالقرب ممن يعلمهم، يربيهم، ويهتم بهم هو سر وجود جيل راقٍ متعلم ومثقف.
الزوج افتتح في الأردن مؤسسة للمفروشات المكتبية وهنا تولى هو الأمر المالي بشكل كامل وهي تفرغت لكل شيء آخر، البيت والاهتمام بتربية الأولاد وهذه كانت المرة الأولى التي توقفت فيها عن العمل بعد 12 عاماً.
إقرأ أيضاً:
المرأة موظفة مزدوجة فهل يتم إنصافها؟
اليوم وكل يوم، نجد بأن أهم أساسات العائلة المتينة، هو التفاهم وتقبل دور الآخر ودعمه وفهم المشاركة الزوجية. حيث أن هذا ما لامسته من حديث رجاء خورشيد حول زوجها، رحمه الله.
كانت تدرك بان أبناءها بحاجتها، لكنها لم تدرك أن المئات من الأطفال هم بحاجتها أيضاً!
وتستمر الحياة، عائلة من أب وأم وأطفالهم. يعمل الوالدين لكي يكبر الأولاد ويثابرون في الحياة ليكبروا بالفعل ومنهم من يتزوج ومنهم من يتخرج من الجامعة. وكأن محطة جديدة كانت في الانتظار بعد كل ذلك، ويتوفي الزوج.
أيام صعبة، ومسؤولية متضاعفة على رجاء خورشيد، وركن أساسي لم يعد موجوداً، ولكنها تكمل بقوة أكبر وإيمان أقوى. حتى بعد أن توفي زوجها، أكملت هي الطريق وعادت للعمل مجدداً.
هذا ما يمكن أن نسميه زمن الطيبين، الذي ولد أناساً معطاءين ومكافحين، أو كما نقولها بالعامية: النفس الخضرة، التي لا تزال تقدم وتعطي مهما حدث.
فهناك من يزال بحاجتها في هذه الحياة، ولم تكن تدرك رجاء أن هناك الكثيرين لربما المئات من هم بحاجتها أيضاً!
يتجلى لطف الله أحياناً دون أن ندرك!
بعضُ الخطوات التي نقوم بها في حياتنا، قد تحمل خفايا لا نعلمها. وقد يتجلى لطف الله فيها دون أن ندرك!
في يوم من الأيام، توجهت رجاء خورشيد للقيام بكفالة يتيم عن روح زوجها. وفي المؤسسة المتخصصة بكفالة الأيتام، دار حوار بينها وبين الإدارة هناك، وحينها عرضوا عليها العمل معهم. لا شك بأن سيدة وأم وموظفة بتاريخ مهني مشرف مثل رجاء خورشيد أن تكون مكسباً لأي مكان تكون جزءاً منه. عرض العمل هذا يتوافق مع الفراغ الذي خلق حينها في حياة رجاء، بعد وفاة زوجها وقد كبر أولادها مما دعم موقفها لتكون جزءاً من جمعية عيبال الخيرية.
للتعرف أكثر حول: جمعية عيبال الخيرية
دور رجاء خورشيد في جمعية عيبال الخيرية
بدأت رجاء العمل في لجنة كفالة اليتيم، 15 عاماً وهي تعمل رئيساً للجنة حتى يومنا.
وقد وصفت لنا بعضاً من مهامهم التي تشمل: تفقد وزيارة الأيتام في بيوتهم، دراسة حاجة العائلات، تقديم الهدايا والطرود الرمضانية وإقامة إفطار رمضاني سنوي يعتبره المشاركون يوم عيد لكثرة الخير المقدم فيه. وغير ذلك، من نشاطات تنمية أفكار الأطفال والألعاب التنموية. ونشاط تحضير الفطور الجماعي والتجهيز لإقامة بازار أمهات الأيتام، الذي تعرض فيه الأمهات مشغولاتهم اليدوية وجني الريع وتوجيهه مباشرة لخدمة الأيتام.
أكثر من 500 يتيم، تحت ظل هذه الجمعية، التي تعمل فيها رجاء خورشيد بكل حب وعطاء لم تتوقف عنهما منذ أن بدأت.
لا تشعري بالتقصير وأنت أم معطاءة
كأي أم عاملة، هل واجهت رجاء خورشيد أي مشاعر بالتقصير تجاه تربية الأطفال أثناء العمل؟
كانت إجابتها على هذ السؤال: قدمت لهم كل ما يحتاجونه، ولم أقصر في تربيتهم التي أثمرت ثقتي بهم، فقد كانوا أولويتي. لذا لا تتملكني مشاعر التقصير حيال ذلك.
قد يخبرك طفلك بأنه لا يود منك الخروج من المنزل وتركه خلال ساعات عملك، فهذا لأنه متعلق بك وبحبك.
لكن عزيزتي الأم، لا يتوجب أن يزعجك ذلك الأمر أو أن يشعرك بالتقصير طالما أنك لا تبخلين في العطاء ولا تقصرين في التربية. لأنه حتى في غياب الأم فهي تصنع الأفضل ليس لأجلها فحسب بل لأجل أطفالها أيضاً!