أبي بطلي الخارق، شكراً لك
أبي بطلي الخارق، الذي يمكنه إيجاد الحلول السحرية للمشاكل، مهما كان حجمها أو نوعها. يمكنه إنقاذي في أصعب أوقاتي، له لمسة مميزة تمنح الأشياء من حولي مذاقاً لا مثيل له. هو معنى الأمان، السند، الفرحة، الثقة، الراحة والاطمئنان. في عينيه عنواني، و من كلماته أستمد إيماني. هو فارسي المغوار، وأنا أميرته التي يمتطي حصانه دائماً لينقذها في الوقت المناسب بلا تأخير!
أبي بطلي الخارق هو مصدر فخري أمام الجميع، تلمع عيناي بسعادة حينما يذكرون اسمه أمامي. هو ملهمي الأول، الأب الروحي لأفكاري وأحلامي. لست أدري كيف صرت أحاكيه في الكثير من التفاصيل الصغيرة، بقصد أو بدون قصد!
ماذا تعلمت منه؟
تعلمت منه الكثير والكثير مما يصعب ذكره في بضعة سطور، ولكن إليكم بعض ما تعلمت من أبي بطلي الخارق:
- تعلمت منه معنى الطموح بلا حدود، والسعي والمثابرة بلا كلل أو ملل.
- تعلمت كيف يمكنني أن أهتم بعملي بدون أن أهمل أسرتي وحياتي الشخصية؛ كان مثالا ناجحاً في عمله، وكان يعلم عنّا أدق تفاصيلنا، دائما يكون معنا حينما نحتاج إليه.
- تعلمت منه تقدير قيمة الأشياء التي تستحق؛ الأخلاق، الجمال، الأصدقاء، التعاطف، الرحمة والإنسانية.
تعلمتُ من أبي العظيم
- تعلمت حب القراءة والكتابة والفن والحرية والانطلاق، تعلمت قيمة الحياة.
- تعلمت كيف أن المال ماهو إلا وسيلة وليست غاية، وأنه لابد من الاعتدال في كل الأمور.
- تعلمت كيف أجعل الله نصب عيني، وكيف يمكنني التغافل عن مواقف البشر من أجل غاية أكبر وهي رضا الله.
- تعلمت معنى الصبر والرضا واليقين في أحلك الأوقات.
- تعلمت أن خير ما أورثه لأبنائي ليس مالا أو بيتا أو متاع، إنها تقوى الله كما كان يذكرني دائما بتلك الآية: “وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا” سورة النساء، آية ٩.
- تعلمت أن الأب هوالرجل الأول في حياة ابنته، إن كان لها خير صديق فهنيئاً لها، وإن لم يكن فقد حكم عليها بالتعاسة المبكرة، تظل طوال عمرها تبحث عما فقدته معه ولن تجده، فلا يمكن لأحدٍ أن يعوض غياب الأب.
- تعلمت فن صناعة الذكريات في حياة من نعرف، تعلمت فن الاستمتاع بالحياة والحب.
- تعلمت تقدير قيمة الأشياء الصغيرة، ضحكات الأطفال، مذاق الطعام، كلمات الشكر والحب، وغيرها الكثير.
- تعلمت قيمة العطاء بلا حدود، وكيف تأتي السعادة من العطاء قبل الأخذ.
- تعلمت قيمة التسامح والعفو عند المقدرة، وألا أنتظر حقوقي من العباد وإنما من رب العباد.
- تعلمت معنى الابتسامة لمن أعرف أو لا أعرف.
- تعلمت كيف أكون (متواجدة) في حياة أبنائي، كيف أن التواجد في حياتهم لا يعني الوجود الجسدي فقط وإنما هو التواجد العاطفي أولا وإشباع احتياجاتهم النفسية قبل الجسدية.
- تعلمت أن الأب يمكنه المشاركة في أمور المنزل ولا يعيبه ذلك في شيء.
- تعلمت أن الرجولة هي تكريم المرأة، احترامها وجعلها ملكة على عرشها وكأنها على بساط سحري.
- تعلمت أن الأثر الطيب يبقى إلى الأبد وصلاح الأبناء من صلاح الآباء فما تزرعه اليوم في أبنائك غدا تجنيه حتى بعد مماتك.
ذكرياتنا معا
قد أكون صاحبة أسوأ ذاكرة على الإطلاق! لكني مازلت أذكر بعض المواقف مع أبي بطلي الخارق، وأبتسم بسعادة كلما جالت بخاطري.
أذكر جيدا ذلك اليوم، كان أحد أيام العيد وكعادتنا كنا نقضي العيد مع جدي وجدتي وبقية العائلة، ومع تجمع الأسر وأعداد الأطفال الكثيرة دائما ما تأتي الحوادث.
في يوم العيد
كان لدى أبي بندقية صيد عصافير محشوة بالرصاص، وصلت البندقية في ذلك اليوم إلى يد ابن عمي الصغير! وبينما يلعب بها ويأخذ دور اللص الذي يطلب منا الاستسلام ورفع أيادينا؛ تنطلق الرصاصة بدون قصد منه وتصيب رأسي مباشرة!
يهرول الجميع إلى مصدر الصوت، ويحملني أبي على ذراعيه. وبدون وعي يروح ويجيء في الردهة وهو يبكي لإصابتي. ثم نذهب للمشفى وتطمئننا الأشعة أن الرصاصة قد انحرفت وأحدثت جرحا سطحيًا فقط ولم تخترق عظام الجمجمة!
قد لا أذكر تفاصيل اليوم تماماً؛ ولكني أذكر جيدا إحساسي في ذلك اليوم. ذلك الحب والحنان الذي غمرني به وهو يحملني، كيف كان يبكي مثل الطفل الصغير ويملأه الخوف علي، إحساس لا يعوض، حب يكفيني طوال العمر!
أذكر كيف كان يأخذنا ونذهب لتناول الغداء على شاطئ البحر، نستمتع بمشهد غروب الشمس مع صوت الأمواج ونتأمل في جمال تفاصيل الطبيعة من حولنا.
أذكر كيف كنا نسافر معاً بالسيارة من بلدٍ إلى بلد، نتوقف على الطريق ويعرفنا على المعالم من حولنا. كيف كان يردد الأذكار بصوت عال؛ ليظل صوته في مسامعي حتى الآن، ويناله الثواب كلما رددت الأذكار كما علمني.
أذكر كيف كان يخصص لنا يوم العطلة من كل أسبوع، كيف كان يشعرني ذلك بالأهمية والحب والثقة في ذاتي، وكيف جعلني ذلك أقدّس معنى العائلة وأدرك أهمية قضاء وقت نوعي مع أطفالي.
أفتقدك كثيراً
رحل أبي عن الحياة!
وصرت أتحدث عنه كيف (كان) ولكنه أبداً لم يكن، مازال أبي الحاضر الغائب في كل حكاياتي. لم أشعر يوما أنه رحل، فالحقيقة أنهم لا يرحلون، يعيشون إلى الأبد في داخلنا؛ أرواحهم لا تفارقنا، صورتهم في أذهاننا طوال الوقت، ننتظر قدومهم في أحلامنا ونحزن كثيراً حينما نستيقظ وكأننا فارقناهم مرة أخرى.
أفتقدك يا أبي، أشتاق لحديثنا معًا، أفتقد رأيك في كتاباتي، أشتاق بسمتك التي تنير أيامي. أفتقد حنانك. أفتقد إحساس الأمان لأن أبي بالبيت. أشتاقك كلما قال أحدهم كلمة “بابا”.
أفتقدك كلما شاهدت رجلاً كبيراً في السن، يسير إلى جوار ابنته متكئًا عليها. وأسرح بخيالي وأرانا معًا! ثم أتذكر أنك قد رحلت؛ فأدعو لك بالرحمة والمغفرة، وتهرب مني دمعة حائرة لا أملك منعها مهما حاولت.
أفتقدك كلما سألتني ابنتي عنك؛ كيف كنت وماذا كنت تحب، وكيف كانت ذكرياتنا معًا. ينفطر قلبي حينما تبكي وتقول لي: أتمنى لو كان لي جد مثل أصدقائي، ألهو معه وأحكي لهم عنه. أربت على كتفها وأواسيها قائلة؛ هيا ندعو الله أن يجمعنا به في الجنة. أفتقد حنان الجد لأبنائي وإحساسي بالفخر والفرحة عندما يأتي أبي لزيارتي في منزلي. أحكي للجميع عنك بفخر وكأنك لم ترحل يوماً! فأنت بقلبي دوماً وأبداً.
شكراً أبي
شكراً أبي لأنك أبي.
سعيدة يا أبي لأنني ابنتك.
شكراً أبي لأنك ستظل أبي بطلي الخارق، حتى وإن رحلت عن الحياة!
في ذكرى وفاتك الخامسة عشر، والتي تصادف يوم الأب العالمي أهديك كلماتي؛ كل عام وأنت بخير حال يا أبي، في خير مكان، و على خير أراك قريباً.
اقرأ أيضاً ميرا حوراني تروي قصة والدها