نعيش اليوم في عالم رقمي تكنولوجي، فتح عيوننا وعقولنا على كل العالم. أصبحنا نرى الاختلافات الثقافية وأنماط الحياة المختلفة بكبسة زرٍ واحدة. بل وأصبحنا نبحث عن حلولٍ لمشاكلنا اليومية، كبيرة كانت أم صغيرة؛ عن طريق محركات البحث التكنولوجية المختلفة! بالرغم من كل الفائدة التي نجدها في العالم الرقمي التكنولوجي؛ ولكننا لا نستطيع أن نغفل عن جانبه المظلم وعن ارتباطه الوثيق بالهشاشة النفسية التي نعاني منها، ولا نستطيع إنكار المقارنات الدائمة، التي تضع الأم أو السيدة نفسهابها مع مشاهير السوشال ميديا دون أن تشعر!
هذه المقارنات التي تجعلنا عرضة للأذى النفسي وعدم الرضا بحياتنا أو بالنعم التي نملكها، والتي تجعلنا نسعى كسيدات بكل ما أوتينا من قوة للكمال! ونبذل كل جهدنا كأمهات؛ حتى نرتقي لأن نصبح أمهات مثاليات، ظناً منا أن هذا سيشعرنا بالرضا الذاتي من خلال إعجاب الآخرين بنا!
كيف ارتبطت الهشاشة النفسية بالسوشال ميديا؟
يعاني العديد من الأفراد شباب وأطفال، رجالاً ونساء من الهشاشة النفسية التي سببها بالدرجة الأولى عالم السوشال ميديا. مما أدى إلى نشوء جيل من الشباب والمراهقين، ممن يرون أنفسهم ضعفاء وهشين. حتى أصبح جيل اليوم من الشباب والمراهقين؛ أقل ثورية وأكثر تسامحاً بطريقة سلبية، وأقل سعادة وغير مؤهلين تماماً للانتقال إلى مرحلة الرشد!
فما هي الهشاشة النفسية؟ وكيف ارتبط كل ذلك بالسوشال ميديا؟
الهشاشة النفسية؛ هي مواجهة الصعوبة في إدارة تحديات الحياة وما ينتج عنها من مشاعر؛ فلا نعد قادرين على إدارة القليل من القلق. مما قد يؤدي بنا إلى الإصابة بنوبات الهلع، ولا نعد قادرين على تحمل الأحزان الصغيرة. بل نسمح لها أن تقودنا إلى دوامات الاكتئاب أو النقد الذاتي، حتى أننا قد نسخط على كل العالم وننعزل لأيام إن شعرنا بالقليل من الغضب من شخص أو تجربة حياة بسيطة!
اقرأ أيضاً الهشاشة النفسية – هل هي مرض العصر؟
أما عن ارتباطها الوثيق بالسوشال ميديا؛ فقد قمنا بالاستعانة بكتاب الهشاشة النفسية من تأليف الدكتور اسماعيل عرفة؛ لكتابة هذا المقال ولتسليط الضوء على قدرة هذه الشبكات على تعزيز هشاشة جيل بأكمله. كما قمنا بطرح بعض الأسئلة على بعض السيدات، ممن هنّ من جيل الجدات وجيل أمهات اليوم؛ لنرى الفروقات المختلفة للصحة النفسية لجيلٍ عاش حياةٍ خالية من السوشال ميديا مقابل جيلٍ عاش حياةٍ مليئة بها!
تمثل الأثر السلبي للسوشال ميديا وفقاً لكتاب الهشاشة النفسية كما يلي:
1. تعزيز النرجسية
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في كل أرجاء العالم، والتي خلقت معها ظواهر متعددة مثل ظاهرة “السيلفي”، التي انتشرت كالنار بالهشيم منذ عام 2010 إلى الآن، والتي مثلت نقلة نوعية جديدة في عالم النرجسية، بل وخلقت لغة جديدة تعكس رؤيتنا لأنفسنا ومشاعرنا.
كيف ذلك؟ أكدت الفيلسوفة الفرنسية “إلزا جوادار”؛ أن ظاهرة السيلفي تعكس خلف واجهتها العادية نوعاً دفيناً من الرغبة في اختراق أسرار “الأنا“، التي ينتج عنها مشكلة الغرور والتقدير المبالغ للذات.
أيضاً؛ في عالم السوشال ميديا ندور جميعاً في فلك “الأنا”؛ فتفاعل الآخرين مع حسابنا الشخصي هو ما يحدد هويتنا. بل لا نريد شيئاً أكثر من التفاعل الإيجابي مع ما ننشره، وحتى أن البعض يفعل المستحيل ليحصد أكبر عدد من “اللايكات”!
ظواهر متعلقة بعالم السوشال ميديا أدت إلى تطور هذا السعي غير المسبوق للشعور بالتقدير والإعجاب، وهذا الاهتمام لنظرة الناس لنا ورأيهم بنا. هذا المستوى من بحث الإنسان عن الاحترام وهذا السباق نحو التأثير؛ أدى بنا إلى الهرب من أي كلمة سلبية فهي كفيلة بتحطيم نفسياتنا وتحويلنا إلى ركام متناثر!
2. التغيير من أجل التغيير فقط
التغيير نحو الأفضل؛ هو هدفٌ سامي بلا شك. ولكن التغيير لمجرد التغيير فقط لا غير؛ وضعنا في حالة مجنونة من السرعة! أصبحنا ننتظر شيئاً متغيراً كل لحظة، بل أصبحنا كائنات تعبد السرعة! نريد قهوة فورية ووجبات سريعة وفيديوهات فورية؛ مما أوصلنا إلى الشعور بحاجة فورية لإشباع رغباتنا.
أصبحت حالة التغيير المستمر بالنسبة للعديد منا؛ هوس لا نهاية له، بل أصبح التغيير قيمة بذاته نسعى له في كل دقيقة. مما نتج عنه عدم امتلاكنا وقتاً للتفكير أو للتأمل في المعاني العميقة للمفاهيم التي نؤمن بها. بل أن هذا التغيير وهذا العالم السريع؛ جعلنا لا نلاحظ حتى مقدار الحياة التي نفقدها بسبب هذا الهوس!
أما الضرر الأكبر من التغيير لمجرد التغيير؛ تمثل في خلق إنطباع خاطئ عن كيفية التعامل مع أغلب المشاكل الحياتية! وهذا ما أكد عليه أستاذ علم الاجتماع بجامعة نيويورك “ريتشارد سينيت”قائلاً: “السمة الملموسة لثقافة التغيير هي أنه لا يوجد أمر طويل المدى. وهذا يفسد الثقة والولاء والاحترام والالتزام المتبادل”.
أيضاً؛ هذا الثبات على التغيير وضعنا في حالة من التوقعات المرتفعة جداً والإحباطات المتكررة. نتوقع الإنجاز السريع والنجاح الفوري، وأمام تقلبات الحياة العادية نغرق في دوامة الاكتئاب والهروب.
3. ضياع التركيز والهشاشة النفسية
في خضم التنقل المستمر بين وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة؛ لم يعد هناك وقت لنفكر بوجودنا وحياتنا أو حتى طموحنا وأهدافنا، ولم نعد نفكر بمشاكلنا وأخطائنا! هذا التفكير في الوجود الذاتي؛ هو العامل الأساسي الذي يساعدنا على معرفتنا العميقة بأنفسنا، والتي تطور بدورها من ذواتنا وشخصياتنا.
أضف إلى ذلك؛ أن هذه التطبيقات تركز فقط على إنجازات الآخرين ومثاليتهم. لتضعنا في مقارنة دائمة بين أنفسنا وبين الآخرين، حتى لا نعد قادرين على إيجاد شخصيتنا الحقيقية الفريدة.
والأهم من ذلك أنها تعطي مفهوماً خاطئاً عن النجاح! حيث أن الإنجازات أو النجاحات المهمة؛ هي تلك التي تحصد أكبر عدد من “اللايكات” أو القلوب الحمراء مهما كانت سطحية! ضياع التركيز هذا يجعلنا بحاجة لوقتٍ أطول للإنتاج، والقلق الذي يسببه يؤدي إلى ارتكابنا العديد من الأخطاء التي تؤثر على إنتاجيتنا؛ لنشعر أن ما نقوم به مجهد وغير ممتع، مما يؤدي إلى الغرق في حالة من الإحباط.
تكرر حالة الإحباط هذه يضعنا في حالة من الاكتئاب والحزن، وتزيد من الهشاشة النفسية لدينا.
4. تنميط النجاح
اغمضي عينيكِ قليلاً وحاولي أن تفكري بمفهوم النجاح الذي كان لديكِ قبل عشر سنواتٍ من الآن؛ وظيفة ثابتة، علاقات أسرية متينة، زواج سعيد، أطفال أصحاء، إنجاز يترك بصمتك في هذه الدنيا. أنظري الآن إلى معايير النجاح تلك الموجودة في العالم الرقمي. ألا ترين أنها شبه موحدة وتتبع نمطاً “هشاً” واحداً؟ عدد المتابعين وعدد المشاهدات والمشاركات والإعجابات. تقييمات المستهلكين والشهرة الرقمية. أتشعرين بكمية الضغط النفسي الذي نرزح تحته لتحقيق كل هذا؟
أصبح نمط النجاح الآن كالتالي: إن لم تنشري فأنتِ غير ناجحة، إن لم تكن لديكِ شعبية في العالم الرقمي فأنتِ غير ناجحة، لم تحصدي آلاف الإعجابات فأنتِ غير ناجحة! بناءً على هذه التصورات يبدأ شباب المستقبل برسم صورة معينة عن “النجاح”.ثم يبدأ السعي لتحقيق هذه المعايير من أجل الشعور بالنجاح. وهل تعلمين عزيزتي القارئة ما الذي يحصل لهؤلاء الشباب عند أول عائق في رحلة نجاحهم التي تعتمد على هذه المعايير؟
اليأس وتحطم المعنويات والإحباط!
وتعقيباً على ذلك تبدأ السيدة صاحبة الموقع أو الصفحة الإلكترونية التي أسستها بهدف تحقيق منفعة شخصية أو فائدة مجتمعية؛ بمتابعة الإعجابات أو المشاركات. ثم دون أن تشعر يتطور الأمر في أغلب الأحيان ويؤثر على صحتها النفسية وكل هذا يصب في مصلحة الهشاشة النفسية.
كيف تأثرت السيدات والأمهات من كل ذلك؟
قمنا بطرح بعض الأسئلة على الجدات اللاتي عشن في ذلك الزمن الخالي من مصطلح “سوشال ميديا”، وعلى سيدات من هن أمهات اليوم؛ لنرى الفروقات التي تمثلت بالشعور بالذنب والرضا والسعادة والتعامل مع ضغوطات الحياة. تقول إحدى الجدات عن سبب زيادة الشعور بالرضا في الزمن السابق مقارنة في الزمن الحاضر: “كان الرضا يعم الأسر في الماضي لبساطة الحياة وعدم تعقيدها والترابط الأسري الذي كان له الدور الأكبر في تحقيق ذلك”.
بينما أجابت جدة أخرى: “كانت الحياة تخلو من الضغوطات والاختراعات الحالية. الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي لها دور سلبي في قتل الوقت دون جدوى”. أما عن الشعور بالذنب في الزمن السابق فأجابت إحدى الجدات: “كنت أشعر بالذنب تجاه أطفالي لعدم تفرغي لهم كوني أم عاملة”. وأيضاً شعرت إحدى الجدات بالذنب قائلة: “شعرت بالذنب لعدم قدرتي على إرضاع طفلتي رضاعة طبيعية لفترة كافية”.
أما فيما يتعلق بالتعامل مع ضغوطات الحياة بسعادة قالت إحدى الجدات: “تفرغ الأم لتربية أطفالها والاهتمام بشؤون المنزل. وتعاون الزوج كان له دور كبير في بث السعادة بين أفراد الأسرة”. وأجابت أخرى: “أنا كنت ولا زلت سعيدة بزوجي وأولادي ولم أعتبر هذا تعب أو ضغوطات حياة؛ فقد كان حافزي الأول هو رؤية نجاح زوجي وأولادي بدراستهم وأبنائهم”.
بينما جاءت إجابات أمهات اليوم كالتالي:
“سبب قلة الشعور بالرضا بالنسبة لي؛ أني أرى نفسي أبذل جهداً مضاعفاً بل وأجري في كل الأنحاء لأجد نفسي متوقفة في مكاني. كما أن غياب دعم الأهل كوني أعيش في غربة يترك في نفسي أثراً يتمثل بعدم الرضا”. وأضافت: “أشعر بالذنب لكل شيء تقريباً! فأنا أشعر أني مقصرة مع أطفالي رغم أني لست مقصرة. ولكنني أرى أمهات السوشال ميديا يبذلون جهداً مضاعفاً مرات ومرات في سبيل أبنائهن. أحاول أن أكون مثلهن ولكن لا أستطيع ولا أجد الوقت أو حتى المال الكافي”.
أما فيما يتعلق بالتعامل مع ضغوطات الحياة قالت: “أغضب وأنفعل وأقلق كثيراً عند التعرض لضغوطات الحياة. وقد أتصرف بشكلٍ خاطئ في بعض الأحيان لأني لا آخذ الوقت الكافي للتفكير بالمشكلة والحلول؛ فكثرة الضغوطات اليومية تجعل التفكير بها عذاب مستمر”.
وعبرت أم أخرى قائلة:
“سبب عدم الرضا الحالي؛ هو ما نتعرض له من مقارنات غير عادلة، وعدم وضوح الهدف أو حتى تسخيفه إن وجد. حتى لو كان الهدف هو العيش أو الاستمتاع بالطعام اللذيذ؛ تحديد هذا الهدف والسعي له بحب سيخلق لديكِ حالة من الرضا”. وأضافت: “المحيط الذي أعيش به هو المسبب بالشعور بالذنب بالنسبة لي! فأنا شخصية تأخذ طاقتها من الأشخاص المحيطين بها، لذلك إن حاول أحد الأشخاص أن يشعرني بالذنب سينجح بذلك”.
أما فيما يتعلق بالتعامل مع ضغوطات الحياة قالت: “لقد قمت بتطوير روتين معين ليساعدني على تخطي العقبات. وقد لا أنجح أحياناً! أخصص وقتاً لنفسي أو أستمع لبعض الموسيقى الكلاسيكية. أو حتى مجرد الحديث لشريك حياتي أو أصدقائي”.
وشاركتنا أم أخرى أيضاً قائلة:
“سبب عدم الرضا المتفشي بين أمهات اليوم؛ هو قيام الأم بمقارنة نفسها بالأخريات. خصوصاً مع الأمهات المؤثرات على منصات السوشال ميديا. كما أن عدم معرفة الأم لما تريد حقاً وبقائها في منطقة الراحة الخاصة بها؛ يخلق لديها حالة من عدم الرضا عن إنجازاتها”.
وأضافت: “آراء المجتمع هي التي تخلق حالة الشعور بالذنب لدى العديد من الأمهات، التعليقات السلبية والأحكام المسبقة والمقارنات؛ تزعزع ثقة الأم بنفسها لتبدأ بلوم نفسها مما يوصلها إلى حالة الشعور بالذنب”.
أما فيما يتعلق بالتعامل مع ضغوطات الحياة قالت: “شخصياً أسمح لنفسي بالمرور في فترة اكتئاب قصيرة دون السماح لهذه الفترة بالسيطرة على حياتي. ثم أنهض بعدها لأكمل حياتي باحثة عن السعادة في أبسط الأمور”.